فصل: تفسير الآيات رقم (67- 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 71‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدّم في التلاوة، ومؤخر في المعنى، على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 72‏]‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏قتلتم‏}‏ مقدّماً في النزول، ويكون الأمر بالذبح مؤخراً، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمر بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب، وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع، من دون ترتيب، ولامعية، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام، والبقرة اسم للأنثى، ويقال للذكر ثور، وقيل إنها تطلق عليهما، وأصله من البقر، وهو‏:‏ الشق؛ لأنها تشق الأرض بالحرث، قال الأزهري‏:‏ البقر اسم جنس، وجمعه باقر، وقد قرأ عكرمة، ويحيى بن يعمر‏:‏ ‏{‏إن * البقر تشابه عَلَيْنَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُزُواً‏}‏ الهزو هنا‏:‏ اللعب والسخرية‏.‏ وقد تقدم تفسيره‏.‏ وإنما يفعل ذلك أهل الجهل؛ لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏ هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به، ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة، لأجزأهم ذبح بقرة من عُرْض البقر، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم كما سيأتي بيانه‏.‏ والفارض‏:‏ المسنة، ومعناه في اللغة‏:‏ الواسع‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ وكأنها سميت فارضاً؛ لأنها فرضت سنها أي‏:‏ قطعتها وبلغت آخرها‏.‏ انتهى‏.‏ ويقال للشيء القديم‏:‏ فارض، ومنه قول الراجز‏:‏

يَا ربَّ ذِي ضغن عَليَّ فَارِضٍ *** لَهُ قُرُو كَقُرُو الحَائِض

أي قدي‏.‏ وقيل‏:‏ الفارض‏:‏ التي قد ولدت بطوناً كثيرة فيتسع جوفها، والبكر‏:‏ الصغيرة التي لم تحمل، وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل، وتطلق أيضاً على الأوّل من الأولاد، ومنه قول الراجز‏:‏

يَا بَكْر بَكرين وَيَا صُلْبَ الكْبِد *** أصْبَحْت مِني كَذِراعٍ من عَضُدْ

والعوان‏:‏ المتوسطة بين سني الفارض والبكر، وهي التي قد ولدت بطناً، أو بطنين؛ ويقال‏:‏ هي التي قد ولدت مرة بعد مرة، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ إلى الفارض، والبكر، وهما‏:‏ وإن كانتا مؤنثتين، فقد أشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور، كأنه قال‏:‏ بين ذلك المذكور‏.‏ وجاز دخول بين المقتضية لشيئين؛ لأن المذكور متعدد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فافعلوا‏}‏ تجديد للأمر وتأكيد له، وزجر لهم عن التعنت، فلم ينفعهم ذلك، ولا نجع فيهم، بل رجعوا إلى طبيعتهم، وعادوا إلى مكرهم، واستمرّوا على عادتهم المألوفة، فقالوا‏:‏ ‏{‏ادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏‏.‏

واللون‏:‏ واحد الألوان، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء‏.‏ قال بعضهم‏:‏ حتى قرنها، وظلفها‏.‏

وقال الحسن‏.‏ وسعيد بن جبير‏:‏ إنها كانت صفراء القرن‏.‏ والظلف فقط، وهو‏:‏ خلاف الظاهر‏.‏ والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة‏.‏ وروى عن الحسن أن صفراء معناه سوداء، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو‏:‏ أقبح الألوان أنه يسرّ الناظرين، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجزي على الأسود بوجه من الوجوه، فإنهم يقولون في وصف الأسود‏:‏ حالك، وحلكوك، ودجوجى وغربيب‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يقال‏:‏ فقع لونها يفقع فقوعاً‏:‏ إذا خلصت صفرته‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ «الفقوع أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه»‏.‏ ومعنى ‏{‏تَسُرُّ الناظرين‏}‏‏:‏ تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجاباً بها، واستحساناً للونها‏.‏ قال وهب‏:‏ كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها‏.‏

ثم لم ينزعوا عن غوايتهم، ولا ارعووا من سفههم وجهلهم، بل عادوا إلى تعنتهم فقال‏:‏ ‏{‏ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ أن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلهم عليه، والامتثال لما أمروا به‏.‏

والذلول‏:‏ التي لم يذللها العمل، أي‏:‏ هي غير مذللة بالعمل، ولا ريضة به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تُثِيرُ‏}‏ في موضع رفع على الصفة لبقرة، أي‏:‏ هي بقرة لا ذلول مثيرة، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسْقِى الحرث‏}‏ في محل رفع؛ لأنه وصف لها، أيّ ليست من النواضح التي يُسْنَى عليها لسقي الزروع، وحرف النفي الآخر توكيد للأوّل، أي هي‏:‏ بقرة غير مذللة بالحرث، ولا بالنضح، ولهذا قال الحسن‏:‏ كانت البقرة وحشية‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏تثير‏}‏ فعل مستأنف، والمعنى‏:‏ إيجاب الحرث لها، والنضح بها‏.‏ والأوّل أرجح؛ لأنها لو كانت مثيرة ساقية، لكانت مذللة ريضة، وقد نفى الله ذلك عنها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُّسَلَّمَةٌ‏}‏ مرتفع على أنه من أوصاف البقرة، ويجوز أن يكون مرتفعاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ هي‏:‏ مسلمة‏.‏ والجملة في محل رفع على أنها صفة، والمسلَّمة‏:‏ هي التي لا عيب فيها‏.‏ وقيل‏:‏ مسلمة من العمل، وهو ضعيف؛ لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها، والتأسيس خير من التأكيد، والإفادة أولى من الإعادة‏.‏ والشية أصلها‏:‏ وشِيَة حذفت الواو كما حذفت من يشي، وأصله يوشى، ونظيره الزنة، والعدة، والصلة، وهي مأخوذة من وشي الثوب‏:‏ إذا نسج على لونين مختلفين، وثور موشى في وجهه، وقوائمه سواد‏.‏ والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر‏.‏ فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب، ولا يخالج سامعها شك، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه، أقصروا من غوايتهم، وانتبهوا من رقدتهم، وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم ‏{‏قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق‏}‏ أي‏:‏ أوضحت لنا الوصف، وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات ‏{‏فَذَبَحُوهَا‏}‏ وامتثلوا الأمر الذي كان يسراً، فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه ‏{‏وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ ما أمروا به؛ لما وقع منهم من التثبط، والتعنت، وعدم المبادرة‏.‏

فكان ذلك مظنة للاستبعاد، ومحلا للمجئ بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم ما كادوا يفعلون؛ لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف، وقيل‏:‏ لارتفاع ثمنها‏.‏ وقيل‏:‏ لخوف انكشاف أمر المقتول، والأوّل أرجح‏.‏ وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل‏.‏

وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به، لا من باب النسخ، وبين البابين بَوْن بعيد كما هو مقرر في علم الأصول‏.‏

الثاني‏:‏ أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من عُرْض البقر فيذبحونها، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان، والصفراء، ولا دليل يدل على أن هذه المحاورة بينهم، وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها، ويديرون الرأي بينهم في أمرها، ثم يوردونها، وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن عبيدة السلماني؛ قال‏:‏ كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدّعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذو الرأي منهم‏:‏ علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم‏؟‏ فأتوا موسى، فذكروا ذلك له، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ الآية، قال‏:‏ فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شدّدوا، فشدّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال‏:‏ والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها فضربوه ببعضها، فقام فقالوا‏:‏ من قتلك‏؟‏ فقال‏:‏ هذا، لابن أخيه، ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً، ولم يورّث قاتل بعده‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب‏:‏ «من عاش بعد الموت» عن ابن عباس؛ أن القتيل وجد بين قريتين؛ وأن البقرة كانت لرجل كان يبرّ أباه، فاشتروها بوزنها ذهباً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه، نحواً من ذلك، ولم يذكر ما تقدم في البقرة‏.‏

وقد روى في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة‏.‏

وأخرج البزار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم، أو لأجزأت عنهم» وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لولا أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر، فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا، فشدّد الله عليهم» وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة؛ يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرجه ابن جرير، عن ابن جريج يرفعه‏.‏ وأخرجه ابن جرير، عن قتادة يرفعه أيضاً، وهذه الثلاثة مرسلة‏.‏ وأخرج نحوه ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس؛ قال‏:‏

الفارض الهرمة، والبكر الصغيرة، والعوان النصف‏.‏ وأخرج نحوه عن مجاهد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذلك‏}‏ قال‏:‏ بين الصغيرة، والكبيرة، وهي أقوى ما يكون، وأحسنه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏صَفْرَاء‏}‏ قال‏:‏ صفراء الظلف ‏{‏فَاقِعٌ لَّوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ صافي‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال‏:‏ ‏{‏فَاقِعٌ لَّوْنُهَا‏}‏ أي‏:‏ صاف ‏{‏تَسُرُّ الناظرين‏}‏ أي‏:‏ تعجب‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ سوداء شديدة السواد‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ ذَلُولٌ‏}‏ أي‏:‏ لم يذلها العمل ‏{‏تُثِيرُ الأرض‏}‏ يعني ليست بذلول، فتثير الأرض ‏{‏وَلاَ تَسْقِى الحرث‏}‏ يقول‏:‏ ولا تعمل في الحرث ‏{‏مُّسَلَّمَةٌ‏}‏ قال‏:‏ من العيوب‏.‏ وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لأشية فِيهَا‏}‏ لا بياض فيها ولا سواد‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس ‏{‏مُّسَلَّمَةٌ‏}‏ لا عوار فيها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق‏}‏ قالوا‏:‏ الآن بينت لنا ‏{‏فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ لغلاء ثمنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قد تقدم ما ذكرناه في قصة ذبح البقرة، فيكون تقدير الكلام‏:‏ ‏{‏وَإِذَا * قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ فقال موسى لقومه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ إلى آخر القصة، وبعدها‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا‏}‏ الآية‏.‏ وقال الرازي في تفسيره‏:‏ اعلم أن وقوع القتل لا بد أن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل، وعن أنه لا بدّ أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة، فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة، فقول من يقول‏:‏ هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى، خطأ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر، فغير واجب؛ لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم، وأخرى على العكس من ذلك، فكأنهم لما وقعت تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة، فلما ذبحوها قال‏:‏ وإذ قتلتم نفساً من قبل، ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم‏.‏ وأصل ادّارأتم تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال، ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز زادوا ألف الوصل، ومعنى ادّارأتم‏:‏ اختلفتم وتنازعتم؛ لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضاً، أي‏:‏ يدفعه، ومعنى ‏{‏مُخْرِجٌ‏}‏ مظهر‏:‏ أي‏:‏ ما كتمتم بينكم من أمر القتل، فالله مظهره لعباده، ومبينه لهم، وهذه الجملة معترضة بين أجزاء الكلام، أي‏:‏ فادّارأتم فيها فقلنا‏.‏ واختلف في تعيين البعض الذي أمروا أن يضربوا القتيل به، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم، ويكفينا أن نقول‏:‏ أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها، فأيّ‏:‏ بعض ضربوا به، فقد فعلوا ما أمروا به، وما زاد على هذا، فهو من فضول العلم، إذ لم يرد به برهان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يحيىلله الموتى‏}‏ في الكلام حذف، والتقدير ‏{‏فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا‏}‏ فأحياه الله ‏{‏كذلك * يحيى * الله الموتى‏}‏ أي‏:‏ إحياء كمثل هذا الإحياء‏.‏ ‏{‏وَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ أي‏:‏ علاماته، ودلائله الدالة على كمال قدرته، وهذا يحتمل أن يكون خطاباً لمن حضر القصة، ويحتمل أن يكون خطاباً للموجودين عند نزول القرآن‏.‏ والقسوة‏:‏ الصلابة واليبس، وهي‏:‏ عبارة عن خلوّها من الإنابة، والإذعان لآيات الله، مع وجود ما يقتضى خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل، وتكلمه، وتعيينه لقاتله، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ إلى ما تقدم من الآيات الموجبة لِلين القلوب ورقتها‏.‏

قيل‏:‏ «أو» في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ بمعنى الواو كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آثماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ ‏[‏الأَنسان‏:‏ 24‏]‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى بل، وعلى أن «أو» على أصلها، أو بمعنى الواو، فالعطف على قوله‏:‏ ‏{‏كالحجارة‏}‏ أي‏:‏ هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة منها، فشبهوها بأيّ الأمرين شئتم، فإنكم مصيبون في هذا التشبيه، وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع «أو» ههنا مع كونها للترديد، أي‏:‏ لا يليق لعلام الغيوب بثمانية أوجه، وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشدّ مع كونه يصح أن يقال‏:‏ وأقسى من الحجارة، لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة، كما قاله في الكشاف‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ «أو أشد» بنصب الدال، وكأنه عطفه على الحجارة، فيكون أشدّ مجروراً بالفتحة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الحجارة‏}‏ إلى آخره، قال في الكشاف إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة، وتقرير لقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه أن مجيء البيان بالواو غير مألوف، ولا معروف، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلاً أو حالاً‏.‏ التفجر‏:‏ التفتح، وقد سبق تفسيره‏.‏ وأصل ‏{‏يَشَّقَّقُ‏}‏ يتشقق أدغمت التاء في الشين، وقد قرأ الأعمش‏:‏ «يتشقق» على الأصل‏.‏ وقرأ ابن مصرف ‏"‏ ينشقّ ‏"‏ بالنون‏.‏ والشق‏:‏ واحد الشقوق، وهو‏:‏ يكون بالطول، أو بالعرض، بخلاف الانفجار، فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق‏.‏ والمراد‏:‏ أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار، والانشقاق، ومن الحجارة ما يهبط أي‏:‏ ينحطّ من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله، وتحل به‏.‏ وقيل‏:‏ إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها، والتواضع الكائن فيها، انقياداً لله عزّ وجلّ، فهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار، وكما قال الشاعر‏:‏

لَمَا أتَى خَبَرُ الزُّبير تواضَعَتْ *** سُورُ المَدينَة والجِبَالُ الخُشَّعُ

وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهَا‏}‏ راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، وهو فاسد، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة، وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق، والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة، التي هي أشدّ الأجسام صلابة، وأعظمها صلادة، فإنها ترجع إلى نوع من اللين، وهي تفجرها بالماء، وتشققها عنه، وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع، والانقياد، بخلاف تلك القلوب، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ من التهديد، وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه مطلعاً عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادارأتم فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ اختلفتم فيها ‏{‏والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ قال‏:‏ ما تغيبون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، عن المسيب بن رافع قال‏:‏ «ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كتاب الله‏:‏ ‏{‏والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏» وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا باب لها، ولا كوّة خرج عمله إلى الناس كائناً ما كان ‏"‏ وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كانت له سريرة صالحة، أو سيئة أظهر الله منها ردّاءً، يعرف به ‏"‏ ورواه البيهقي أيضاً بنحوه من قول عثمان قال‏:‏ والموقوف أصح‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي عن أنس مرفوعاً، حديثاً طويلاً في هذا المعنى ومعناه‏:‏ أن الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدّث به الناس، ويزيدون، ولو عمله في جوف بيت إلى سبعين بيتاً على كل بيت باب من حديد، وفي إسناده ضعف‏.‏ وأخرج ابن عديّ من حديث أنس أيضاً مرفوعاً‏:‏ «إن الله مردّ كل امرئ رداء عمله»‏.‏ ولجماعة من الصحابة، والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا‏}‏ قال‏:‏ ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة أنهم ضربوه بفخذها‏.‏ وأخرج مثله ابن جرير، عن عكرمة‏.‏ وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد‏.‏ وأخرج ابن جرير عن السدي قال‏:‏ ضرب بالبضعة التي بين الكتفين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ في العظمة، عن وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة، وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها، وقد استوفاها في الدرّ المنثور‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك‏}‏ قال‏:‏ من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل‏:‏ ‏{‏فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ ثم عذر الله الحجارة، ولم يعذر شقيّ بني آدم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ أي‏:‏ من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ قال‏:‏ «إن الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه، وأنه ليهبط من خشية الله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار، كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود‏.‏ والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو له ولهم‏.‏ و‏{‏يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لأجلكم، أو على تضمين آمن معنى استجاب، أي‏:‏ أتطمعون أن يستجيبوا لكم‏.‏ والفريق‏:‏ اسم جمع لا واحد له من لفظه‏.‏ و‏{‏كَلاَمَ الله‏}‏ أي‏:‏ التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين كلمه، وعلى هذا فيكون الفريق هم‏:‏ السبعون الذين اختارهم موسى، وقرأ الأعمش‏:‏ ‏{‏كلم الله‏}‏‏.‏ والمراد من التحريف‏:‏ أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة، فجعلوا حلاله حراماً، أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسقاط الحدود عن أشرافهم، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه، ونقصوا، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر، وإنكار على من طمع في إيمانهم، وحالهم هذه الحال‏:‏ أي‏:‏ ولهم سلف حرفوا كلام الله، وغيروا شرائعه، وهم مقتدون بهم، متبعون سبيلهم‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي، فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من بليغ شرائعه كما هي، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها، وذلك أشد لعقوبتهم، وأبين لضلالهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ‏}‏ يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم عاتبين عليهم‏:‏ ‏{‏أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ حكم عليكم من العذاب، وذلك أن ناساً من اليهود أسلموا، ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذّب به آباؤهم، وقيل إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم معنى خلا‏.‏ والفتح عند العرب‏:‏ القضاء، والحكم، والفتاح‏:‏ القاضي بلغة اليمن‏.‏ والفتح‏:‏ النصر، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 19‏]‏ ومن الأوّل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏وأنت خير الفاتحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ أي‏:‏ الحاكمين، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين، والمحاجة‏:‏ إبراز الحجة، أي‏:‏ لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب، فيكون ذلك حجة لهم عليكم، فيقولون‏:‏ نحن أكرم على الله منكم، وأحق بالخير منه‏.‏ والحجة، الكلام المستقيم، وحاججت فلاناً، فحججته أي غلبته بالحجة‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم‏.‏ ثم وبخهم الله سبحانه ‏{‏أَولا * يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان، ومن ذلك إسرارهم الكفر، وإعلانهم الإيمان‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ثم قال الله لنبيه، ومن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله‏}‏ وليس قوله يسمعون التوراة كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم، فأخذتهم الصاعقة فيها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله، ثم يحرّفونه من بعد ما سمعوه، ووعوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ الذين يحرفونه، والذين يكتبونه هم العلماء منهم، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدى في قوله‏:‏ ‏{‏يَسْمَعُونَ كلام الله‏}‏ قال‏:‏ هي التوراة حرفوها‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا‏}‏ أي‏:‏ بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصة ‏{‏وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ قالوا لا تحدثوا العرب بهذا، فقد كنتم تستفتحون به عليهم، وكان منهم ‏{‏لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تقرّون بأنه نبيّ، وقد علمتم أنه قد أخذ عليكم الميثاق باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي كان ينتظر، ونجد في كتابنا‏:‏ اجحدوه ولا تقرّوا به‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه أن هذه الآية في المنافقين من اليهود وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بما أكرمكم به‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال‏:‏ نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا، ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب لتقولوا نحن أحبّ إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن ابن زيد أن سبب نزول الآية‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يدخلنّ علينا قصبة المدينة إلا مؤمن ‏"‏ فكان اليهود يظهرون الإيمان، فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار، وكان المؤمنون يقولون لهم‏:‏ أليس قد قال الله في التوراة كذا وكذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فإذا رجعوا إلى قومهم‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ الآية»‏.‏ وروى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، أن سبب نزول هذه الآية‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال‏:‏ ‏"‏ يا إخوان القردة، والخنازير، ويا عبدة الطاغوت ‏"‏ فقالوا‏:‏ من أخبر هذا الأمر محمداً‏؟‏ ما خرج هذا الأمر إلا منكم‏:‏ ‏{‏أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏» أي‏:‏ بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن السبب في نزول الآية‏:‏ «أن امرأة من اليهود أصابت فاحشة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمهم، وهو ابن صوريا فقال له‏:‏ ‏"‏ احكم ‏"‏ قال‏:‏ فجبوه والتجبية‏:‏ يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أبحكم الله حكمت‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ لا، ولكن نساءنا كنّ حساناً، فأسرع فيهنّ رجالنا، فغيرنا الحكم، وفيه نزل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ الآية»

وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود، وكانوا إذا لقوا الذين إمنوا قالوا آمنا، فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ نهى بعضهم بعضاً أن يحدثوا بما فتح الله عليهم، وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ونعته، ونبوّته، وقالوا‏:‏ إنكم إذا، فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم عند ربكم ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أو لا يعلمون أن الله يعلم وما يسرّون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوباً عندهم‏.‏ واخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏أَولا * يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ يعني من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكذبهم، وما يعلنون حين قالوا للمؤمنين آمناً، وقد قال بمثل هذا جماعة من السلف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من اليهود‏.‏ والأمي منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل، ولادتها من أمهاتها، لم تتعلم الكتابة، ولا تحسن القراءة للمكتوب، ومنه حديث ‏"‏ إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ‏"‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إنما قيل لهم‏:‏ أميون؛ لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال‏:‏ ومنهم أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ هم نصارى العرب‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وقيل‏:‏ هم‏:‏ المجوس، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ والراجح الأوّل‏.‏ ومعنى ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِىَّ‏}‏ أنه لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها، ويعللون بها أنفسهم‏.‏ والأمانيّ‏:‏ جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم لا يكتبون، ولا يقرءون المكتوب‏.‏ والاستثناء منقطع، أي‏:‏ لكن الأمانيّ ثابتة لهم من كونهم مغفوراً لهم بما يدّعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم‏.‏ وقيل الأمانيّ‏:‏ الأكاذيب، كما سيأتي عن ابن عباس‏.‏ ومنه قول عثمان بن عفان‏:‏ ما تمنيت منذ أسلمت، أي‏:‏ ما كذبت، حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وقيل الأماني‏:‏ التلاوة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ أي‏:‏ إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، أي‏:‏ لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر، ومنه قول كعب بن مالك‏:‏

تمنى كتابَ اللهِ أوّلَ لَيْلةٍ *** وأخِرَه لاقى حِمامَ المقادر

وقال آخر‏:‏

تمنَّى كتابَ الله آخِرَ لَيْلةٍ *** تَمنِّي داودَ الزَّبُورَ على رِسْلَ

وقيل الأماني‏:‏ التقدير‏.‏ قال الجوهري‏:‏ يقال مني له، أي قدّر، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا تأمنَنَّ وإن أمسيتَ في حَرَم *** حتى تُلاقِي ما يَمْنِي لك المانِي

أي‏:‏ يقدر لك المقدر‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ ‏"‏ والاشتقاق من مَنّي إذا قدّر؛ لأن المتمني يقدر في نفسه، ويجوّز ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارئ يقدران كلمة كذا بعد كذا ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ و«إن» في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ نافية، أي‏:‏ ما هم‏.‏ والظن هو‏:‏ التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم‏.‏ كذا في القاموس‏.‏ أي‏:‏ ما هم إلا يترددون بغير جزم، ولا يقين، وقيل الظن هنا بمعنى‏:‏ الكذب‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ مجرد الحدس، لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأماني، ويعتمدون على الظن، الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره، ولا يظفرون بسواه‏.‏

والويل‏:‏ الهلاك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الأصل في الويل‏:‏ وي، أي‏:‏ حزن كما تقول وي لفلان‏:‏ أي‏:‏ حزن له، فوصلته العرب باللام، قال الخليل‏:‏ ولم نسمع على بنائه إلا ويح، وويس، وويه، وويك، وويب، وكله متقارب في المعنى، وقد فرّق بينها قوم، وهي‏:‏ مصادر لم ينطق العرب بأفعالها، وجاز الابتداء به، وإن كان نكرة؛ لأن فيه معنى الدعاء‏.‏ والكتابة معروفة، والمراد‏:‏ أنهم يكتبون الكتاب المحرّف، ولا يبينون، ولا ينكرونه على فاعله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ تأكيد؛ لأن الكتابة لا تكون إلا باليد، فهو مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ وقال ابن السراج‏:‏ هو‏:‏ كناية عن أنه من تلقائهم‏.‏ دون أن ينزل عليهم‏.‏ وفيه أنه قد دلّ على أنه من تلقائهم قوله‏:‏ ‏{‏يَكْتُبُونَ الكتاب‏}‏ فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك‏.‏ والاشتراء‏:‏ الاستبدال، وقد تقدّم الكلام عليه، ووصفه بالقلة لكونه فانياً لا ثواب فيه، أو لكونه حراماً لا تحلّ به البركة، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف، ولا بالكتابة لذلك المحرّف، حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله، لينالوا بهذه المعاصي المتكرّرة هذا الغرض النزير، والعوض الحقير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ قيل من الرشا ونحوها‏.‏ وقيل من المعاصي‏.‏ وكرر الويل؛ تغليظاً عليهم، وتعظيماً لفعلهم، وهتكاً لأستارهم

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ اليهود ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النار‏}‏ الآية‏.‏ وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا‏}‏ الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة‏:‏ أي‏:‏ لم يتقدّم لكم مع الله عهداً بهذا، ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك، وعدم إخلاف العهد، أي‏:‏ إن اتخذتم عند الله عهداً، فلن يخلف الله عهده ‏{‏أم تقولون على الله مالا تعلمون‏}‏‏.‏ قال في الكشاف، ‏"‏ و«أم» إما أن تكون معادلة بمعنى، أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير؛ لأن العلم واقع بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا توبيخ لهم شديد‏.‏ قال الرازي في تفسيره‏:‏ العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد، وإنما سمي خبره سبحانه عهداً؛ لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ إثبات بعد النفي‏:‏ أي بلى تمسكم، لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة، والسيئة‏:‏ المراد بها الجنس هنا، ومنه قوله تعالى ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به‏.‏ قيل‏:‏ هي الشرك، وقيل الكبيرة، وتفسيرها بالشرك أولى؛ لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود، وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قرأ نافع ‏{‏خطياته‏}‏ بالجمع، وقرأ الباقون بالإفراد، وقد تقدم تفسير الخلود‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب‏}‏ قال‏:‏ لا يدرون ما فيه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ قال‏:‏ وهم يجحدون، نبوّتك بالظن‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال‏:‏ هذا من عند الله‏.‏ وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن النخعي قال‏:‏ منهم من لا يحسن أن يكتب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَمَانِىَّ‏}‏ قال‏:‏ الأحاديث‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب‏.‏ وكذا روى مثله عبد بن حميد، عن مجاهد، وزاد ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ قال‏:‏ إلا يكذبون‏.‏

وأخرج النسائي، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب‏}‏ قال‏:‏ نزلت في أهل الكتاب‏.‏ وأخرج أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعاً قال‏:‏ «الويل جبل في النار» وأخرج البزار، وابن مردويه، من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً‏:‏ أنه حجرٌ في النار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بأيديهم‏}‏ قال‏:‏ هم أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة مَحَوهُ حسداً، وبغياً، فأتاهم نفر من قريش، فقالوا‏:‏ تجدون في التوراة نبياً أمياً‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، نجده طويلاً، أزرق، سبط الشعر‏.‏ فأنكرت قريش، وقالوا‏:‏ ليس هذا منا‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ قال‏:‏ عرضاً من عرض الدنيا ‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُمْ‏}‏ قال‏:‏ فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب ‏{‏وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ يقول‏:‏ مما يأكلون به الناس السفلة، وغيرهم‏.‏ وقد ذكر صاحب الدرّ المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية، ولادلالة فيها على ذلك، ثم ذكر اثارا عن جماعة منهم أنهم جوّزوا ذلك ولم يكرهوه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والواحدي، عن ابن عباس؛ أن اليهود كانوا يقولون‏:‏ مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، وإنما هي‏:‏ سبعة أيام معدودة، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين، فقالوا‏:‏ لن تعذب أهل النار إلا قدر أربعين، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار، فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة، فقال لهم خزنة النار‏:‏ يا أعداء الله، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأمد، فيأخذون في الصعود يرهقون على وجوههم‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا‏:‏ لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة؛ قال‏:‏ اجتمعت يهود يوماً، فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، أربعين يوماً، ثم يخلفنا فيها ناس، وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّ يديه على رأسه‏:‏ «كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها، إن شاء الله أبداً، ففيهم نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار‏}‏» وأخرج ابن جرير، عن زيد بن أسلم مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج أحمد، والبخاري، والدارمي، والنسائي، من حديث أبي هريرة؛ «أن النبي سأل اليهود في خيبر‏:‏ ‏"‏ من أهل النار‏؟‏ ‏"‏ فقالوا‏:‏ نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبداً ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا‏}‏ أي‏:‏ موثقاً من الله بذلك أنه كما تقولون‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا لا إله إلا الله، لم يشركوا به ولم يكفروا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ قال القوم‏:‏ الكذب والباطل‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً‏}‏ قال‏:‏ الشرك‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏وأحاطت بِهِ خطيئته‏}‏ قال‏:‏ أحاط به شركه، وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً‏}‏ أي‏:‏ من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بماله من حسنة ‏{‏فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون * والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي‏:‏ من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وأحاطت بِهِ خطيئته‏}‏ قال‏:‏ هي‏:‏ الكبيرة الموجبة لأهلها النار‏.‏ وأخرج وكيع، وابن جرير، عن الحسن أنه قال‏:‏ كل ما وعد الله عليه النار، فهو الخطيئة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن الربيع بن خيثم؛ قال‏:‏ هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب‏.‏ وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قد تقدّم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل‏.‏ وقال مكي‏:‏ إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو‏:‏ ما أخذه الله عليهم في حياتهم، على ألسن أنبيائهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏}‏ وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه‏.‏ قال سيبويه‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏}‏ هو‏:‏ جواب قسم، والمعنى، استحلفناهم، والله لا تعبدون إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ إخبار في معنى الأمر‏.‏ ويدل عليه قراءة أبيّ، وابن مسعود‏:‏ «لا تعبدوا» على النهي، ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله‏:‏ ‏{‏وقولوا وأقيموا وآتوا‏}‏ وقال قطرب، والمبرّد‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ‏}‏ جملة حالية، أي‏:‏ أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، وحمزة والكسائي‏:‏ «يعبدون» بالياء التحتية‏.‏ وقال الفراء، والزجاج وجماعة‏:‏ إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا بالوالدين، وبأن لا تسفكوا الدماء‏.‏ ثم حذف ‏"‏ أن ‏"‏، فارتفع الفعل لزوالها‏.‏ قال المبرّد‏:‏ هذا خطأ؛ لأن كل ما أضمر في العربية، فهو يعمل عمله مظهراً‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان، وعليهما أنشد‏:‏

ألا أيُّهذا الزّاجِري أحْضُرَ الوَغَى *** وأنْ أشْهَدَ اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدي

بالنصب لقوله أحضر، وبالرفع‏.‏ والإحسان إلى الوالدين‏:‏ معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق‏.‏ والقربى‏:‏ مصدر كالرجعى، والعقبى، هم القرابة، والإحسان بهم‏:‏ صلتهم، والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة، وبقدر ما تبلغ إليه القدرة‏.‏ واليتامى جمع يتيم، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه‏.‏ وفي سائر الحيوانات من فقدت أمه‏.‏ وأصله الانفراد يقال‏:‏ صبيّ يتيم، أي‏:‏ منفرد من أبيه، والمساكين جمع مسكين، وهو‏:‏ من أسكنته الحاجة وذللته، وهو أشدّ فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة، وكثير من أهل الفقه‏.‏ وروى عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين‏.‏ وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا‏}‏ أي‏:‏ قولوا لهم قولاً حسناً، فهو صفة مصدر محذوف، وهو‏:‏ مصدر كبشرى‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «حسناً» بفتح الحاء، والسين، وكذلك قرأ زيد بن ثابت، وابن مسعود‏.‏ قال الأخفش هما بمعنى واحد، مثل البُخل، والبَخل، والرُّشد، والرَّشد، وحكى الأخفش أيضاً‏:‏ «حسنى» بغير تنوين على فعلى‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف، واللام نحو الفضلى، والكبرى، والحسنى، وهذا قول سيبويه‏.‏ وقرأ عيسى، بن عمر‏:‏ «حُسُناً» بضمتين‏:‏ والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر، وقد قيل‏:‏ إن ذلك هو‏:‏ كلمة التوحيد‏.‏

وقيل‏:‏ الصدق‏.‏ وقيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ قد تقدّم تفسيره، وهو‏:‏ خطاب لبني إسرائيل، فالمراد‏:‏ الصلاة التي كانوا يصلونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها، فتنزل النار على ما يُقبل، ولا ينزل على ما لا يُقبَل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ قيل الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ منصوب على الاستثناء، ومنهم عبد الله بن سلام، وأصحابه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ في موضع النصب على الحال، والإعراض، والتولي بمعنى واحد، وقيل‏:‏ التولي بالجسم، والإعراض بالقلب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْفِكُونَ‏}‏ الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون، وقد سبق‏.‏ وقرأ طلحة بن مُصَرَّف، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة‏.‏ وقرأ أبو نهيك بضم الياء، وتشديد الفاء، وفتح السين، والسفك‏:‏ الصبّ، وقد تقدّم، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض، والدار‏:‏ المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال‏.‏ وقال الخليل‏:‏ كل موضع حلّه قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية؛ وقيل سميت داراً؛ لدورها على سكانها، كما يسمى الحائط حائطاً؛ لإحاطته على ما يحويه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ من الإقرار‏:‏ أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم، في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك، قيل الشهادة هنا بالقلوب، وقيل هي بمعنى الحضور‏:‏ أي‏:‏ أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك‏.‏ وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا ينفيه، ولا يسترقه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ أي‏:‏ أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة، فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية‏.‏ وقيل ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ منصوب بإضمار أعني، ويمكن أن يقال منصوب بالذم، أو الاختصاص، أي‏:‏ أذمّ، أو أخص‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ إن التقدير‏:‏ يا هؤلاء قال النحاس‏:‏ هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز‏.‏ وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين، أي‏:‏ ثم أنتم الذين تقتلون‏.‏ وقيل هؤلاء مبتدأ، وأنتم خبره مقدّم، وقرأ الزهري‏:‏ ‏{‏تقتلون‏}‏ مشدّداً، فمن جعل قوله‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ مبتدأ، وخبراً جعل قوله‏:‏ ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ بياناً؛ لأن معنى قوله‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق، ومن جعل هؤلاء منادى، أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تظاهرون‏}‏ بالتشديد، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج، وهي‏:‏ قراءة أهل مكة‏.‏

وقرأ أهل الكوفة‏:‏ «تظاهرون» مخففاً بحذف التاء الثانية، لدلالة الأولى عليها‏.‏ وأصل المظاهرة المعاونة، مشتقة من الظهر؛ لأن بعضهم يقوي بعضاً، فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر‏:‏

تظاهرتُم من كل أوب ووجهة *** على واحد لا زلْتُمْ قِرنَ واحدِ

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 55‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ و‏{‏أسارى‏}‏ حال‏.‏ قال أبو عبيد، وكان أبو عمرو يقول‏:‏ ما صار في أيديهم، فهو أسارى، وما جاء مستأسراً، فهو الأسرى‏.‏ ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، وإنما هذا كما تقول سكارى، وسكرى‏.‏ وقد قرأ حمزة‏:‏ «أسرى»‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏أسارى‏}‏، والأسرى جمع أسير، كالقتلى جمع قتيل، والجرحى جمع جريح‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولا يجوز أسارى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال أسارى كما يقال سكارى‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ يقال في جمع أسير‏:‏ أسرى وأسارى‏.‏ انتهى‏.‏ فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل‏.‏ وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير، وهو‏:‏ القيد الذي يشدّ به المحمل، فسمي أسيراً؛ لأنه يشدّ وثاقه، والعرب تقول‏:‏ قد أسَرَقتْبه‏:‏ أي‏:‏ شدّه، ثم سمي كل أخيذ أسيراً، وإن لم يؤخذ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تفادوهم‏}‏ جواب الشرط، وهي‏:‏ قراءة حمزة، ونافع، والكسائي، وقرأ الباقون‏:‏ «تفدوهم»‏.‏ والفداء‏:‏ هو‏:‏ ما يؤخد من الأسير ليفكّ به أسره، يقال‏:‏ فداه، وفاداه‏:‏ إذا أعطاه فداءه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قفى فادى أسيرك إن قومي *** وقومك ما أرى لهم اجتماعاً

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ الضمير للشأن وقيل مبهم تفسره الجملة التي بعده، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أوّل الكلام‏.‏ و‏{‏إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ مرتفع بقوله‏:‏ ‏{‏مُحَرَّمٌ‏}‏ سادّ مسدّ الخبر، وقيل بل مرتفع بالابتداء، ومحرّم خبره‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود‏:‏ ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك‏.‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏‏.‏ والخزي‏:‏ الهوان‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والخزي بالكسر يخزي خزياً‏:‏ إذا ذلّ وهان، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً، فصاروا في خزي عظيم، بما ألصق بهم من الذلّ، والمهانة بالقتل، والأسر، وضرب الجزية، والجلاء، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشدّ العذاب؛ لأنهم جاءوا بذنب شديد، ومعصية فظيعة‏.‏ وقد قرأ الجمهور ‏"‏ يردّون ‏"‏ بالياء التحتية‏.‏ وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب‏.‏ وقد تقدّم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ وكذلك تفسير ‏{‏أُولَئِكَ الذين اشتروا‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ‏}‏ إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية، والصغار، والذلة والمهانة، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدّوهم‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ قال يؤنبهم أي ميثاقكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا‏}‏ قال‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وروى البيهقي في الشعب عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ يعني الناس كلهم، ومثله روى عبد بن حميد، وابن جرير، عن عطاء‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ أي‏:‏ تركتم ذلك كله‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أنه قال‏:‏ معناه أعرضتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم، وهم‏:‏ الذين اخترتهم لطاعتي‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ‏}‏ لا يقتل بعضكم بعضاً ‏{‏وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم‏}‏ لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ بهذا الميثاق ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ وأنتم شهود‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ أن هذا حق من ميثاقي عليكم ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم ‏{‏وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم‏}‏ قال‏:‏ تخرجونهم من ديارهم معهم ‏{‏تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان‏}‏ فكانوا إذا كان بين الأوس، والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج، والنضير، وقريظة مع الأوس، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة ‏{‏وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم‏}‏ وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم ‏{‏وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ في كتابكم لإخراجهم ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفراً بذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة‏}‏ قال‏:‏ استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

الكتاب‏:‏ التوراة، والتقفية‏:‏ الإتباع، والإرداف، مأخوذة من القفا، وهو مؤخر العنق، تقول‏:‏ استقفيته‏:‏ إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر؛ لأنها تتلو سائر الكلام‏.‏ والمراد‏:‏ أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له، وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده‏.‏ و‏{‏البينات‏}‏ الأدلة التي ذكرها الله في ‏"‏ آل عمران ‏"‏، و‏"‏ المائدة ‏"‏‏.‏ والتأييد‏:‏ التقوية‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن‏:‏ ‏{‏آيدناه‏}‏ بالمدّ، وهما لغتان‏.‏ وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة‏:‏ أي‏:‏ الروح المقدّسة‏.‏ والقدس‏:‏ الطهارة، والمقدّس‏:‏ المطهر، وقيل‏:‏ هو‏:‏ جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان‏:‏

وَجِبرِيل أمِينُ الله فينا *** وَرَوحُ القُدسِ لَيْس بِه خَفَاءُ

قال النحاس‏:‏ وسمي جبريل روحاً، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة‏.‏ وقيل‏:‏ القدس، هو الله عز وجل، وروحه‏:‏ جبريل، وقيل المراد بروح القدس‏:‏ الاسم الذي كان عيسى يحيى به الموتى، وقيل المراد به الإنجيل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوّة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم‏}‏ أي‏:‏ بما لا يوافقها، ويلائمها، وأصل الهوى‏:‏ الميل إلى الشيء‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وسمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار‏.‏ وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ‏}‏ منكم ‏{‏بِمَا لاَ‏}‏ يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته، احتقاراً للرسل، واستبعاداً للرسالة‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفكلما‏}‏ للعطف على مقدّر، أي‏:‏ آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم، أفكلما جاءكم رسول‏.‏ وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده، والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا‏.‏ والغُلف جمع أغلف، المراد به هنا‏:‏ الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه، ومنه‏:‏ غلفت السيف، أي‏:‏ جعلت له غلافاً‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ هو‏:‏ مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ وقيل إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر‏:‏ أي‏:‏ قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فردّ الله عليهم ما قالوه فقال‏:‏ ‏{‏بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ‏}‏ وأصل اللعن في كلام العرب الطرد، والإبعاد، ومنه قول الشماخ‏:‏

ذَعَرْتُ به القَطا وَنَفَيْتُ عنه *** مَقامَ الذِّئِب كالرجل اللّعين

أي‏:‏ كالرجل المطرود‏.‏ والمعنى‏:‏ أبعدهم الله من رحمته، و‏{‏قَلِيلاً‏}‏ نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ إيماناً قليلاً ‏{‏مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ و«ما» زائدة، وصف إيمانهم بالقلة؛ لأنهم الذين قصّ الله علينا من عنادهم، وعجرفتهم، وشدّة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك‏:‏ أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض‏.‏

وقال معمر‏:‏ المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم، ويكفرون بأكثره، وعلى هذا يكون ‏{‏قليلاً‏}‏ منصوباً بنزع الخافض‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ معناه لا يؤمنون قليلاً، ولا كثيراً‏.‏ قال الكسائي‏:‏ تقول العرب مررنا بأرض قلَّ ما تنبت الكراث، والبصل، أي‏:‏ لا تنبت شيئاً‏.‏

وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ يعني به التوراة جملة، واحدة مفصلة محكمة ‏{‏وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل‏}‏ يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل، ورسولاً يدعى منشابيل، ورسولاً يدعي شعياء، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرمياء، وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود، وهو أبو سليمان، ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله، وانتخبهم من الأمة بعد موسى، فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة أمته‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ قال‏:‏ هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام‏.‏ والخبر بكثير من الغيوب، وما ورد عليهم من التوراة، والإنجيل الذي أحدث الله إليه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وأيدناه‏}‏ قال‏:‏ قوّيناه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيى به الموتى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ القدس‏:‏ الله تعالى‏.‏ وأخرج عن الربيع بن أنس مثله‏.‏ وأخرج عن ابن عباس قال‏:‏ القدس الطهر‏.‏ وأخرج عن السدّي قال‏:‏ القدس البركة‏.‏ وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل‏.‏ وأخرج عن ابن مسعود مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «روح القدس جبريل» وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اللهم أيد حسان بروح القدس» وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ قال‏:‏ طائفة‏.‏

وأخرج عن ابن عباس قال‏:‏ إنما سمي القلب لتقلبه‏.‏ وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ مثقلة أي‏:‏ كيف نتعلم، وقلوبنا غلف للحكمة أي‏:‏ أوعية للحكمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ قال‏:‏ في غطاء‏.‏ وروى ابن إسحاق، وابن جرير عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏في أكِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أنه قال‏:‏ هي القلوب المطبوع عليها‏.‏ وأخرج وكيع عن عكرمة، وابن جرير، عن مجاهد نحوه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ هي التي لا تفقه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير عن حذيفة قال‏:‏ القلوب أربعة‏:‏ قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه مثل السراج، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان، ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيب، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدّها القيح، والدم‏.‏ وأخرج أحمد بسند جيد، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القلوب أربعة‏:‏ قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس، فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح، فقلب فيه إيمان، ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح، فأيّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا يؤمن منهم إلا قليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمُ‏}‏ يعني اليهود ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ يعني القرآن، و‏{‏مُّصَدّقٌ‏}‏ وصف له، وهو في مصحف أبي منصور، ونصبه على الحال، وإن كان صاحبها نكرة، فقد تخصصت بوصفها بقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ عِندِ الله‏}‏ وتصديقه لما معهم من التوراة، والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما، ويصدقه، ولا يخالفه، والاستفتاح‏:‏ الاستنصار، أي‏:‏ كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم، بالنبيّ المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة، وقيل الاستفتاح هنا بمعنى الفتح، أي‏:‏ يخبرونهم بأنه سيبعث، ويعرّفونهم بذلك‏.‏ وجواب «لما» في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب‏}‏ قيل هو‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ‏}‏ وما بعده، وقيل هو محذوف، أي‏:‏ كذبوا، أو نحوه، كذا قال الأخفش، والزجاج‏.‏ وقال المبرّد‏:‏ إن جواب «لما» الأولى هو قوله‏:‏ ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ وأعيدت «لما» الثانية لطول الكلام، واللام في الكافرين للجنس‏.‏ ويجوز أن تكون للعهد، ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر‏.‏ والأوّل أظهر‏.‏

و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا‏}‏ موصولة، أو موصوفة، أي‏:‏ بئس الشيء، أو شيئاً ‏{‏اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ‏}‏ قاله سيبويه‏.‏ وقال الأخفش «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك‏:‏ بئس رجلاً زيد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ بئسما بجملته شيء واحد رُكب كحبذا‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ «ما»، و«اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير‏:‏ بئس اشتراؤهم أن يكفروا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن يَكْفُرُواْ‏}‏ في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه، وخبره ما قبله‏.‏ وقال الفراء، والكسائي‏:‏ إن شئت كان في موضع خفض بدلاً من الهاء في به، أي‏:‏ اشتروا أنفسهم بأن يكفروا، وقال في الكشاف‏:‏ إن «ما» نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، بمعنى شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم أن يكفروا، واشتروا بمعنى باعوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ أي‏:‏ حسداً‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح‏:‏ إذا فسد، وقيل أصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بغياً‏.‏ وهو علة لقوله‏:‏ ‏{‏اشتروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن يُنَزِّلَ‏}‏ علة لقوله‏:‏ ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ أي‏:‏ لأن ينزل‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسداً، ومنافسة ‏{‏أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن محيصن‏:‏ «أن ينزل» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏فباءوا‏}‏ أي‏:‏ رجعوا، وصاروا أحقاء ‏{‏بِغَضَبٍ على غَضَبٍ‏}‏ وقد تقدّم معنى باءوا، ومعنى الغضب‏.‏ قيل الغضب، الأول‏:‏ لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد‏.‏ وقيل‏:‏ كفرهم بعيسى، ثم كفرهم بمحمد‏.‏ وقيل كفرهم بمحمد، ثم البغي عليه وقيل غير ذلك‏.‏ والمهين مأخوذ من الهوان، قيل وهو‏:‏ ما اقتضى الخلود في النار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أنزَلَ الله‏}‏ هو‏:‏ القرآن، وقيل كل كتاب، أي‏:‏ صدّقوا بالقرآن، أو صدّقوا بما أنزل الله من الكتب ‏{‏قَالُواْ نُؤْمِنُ‏}‏ أي‏:‏ نصدّق ‏{‏بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ التوراة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ‏}‏ قال الفراء‏:‏ بما سواه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ بما بعده‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وراء بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى قدّام، وهي من الأضداد‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي‏:‏ قدّامهم، وهذه الجملة، أعني ‏{‏ويكفرون‏}‏ في محل النصب على الحال، أي‏:‏ قالوا نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه، مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً‏}‏ حال مؤكدة، وهذه أحوال متداخلة أعني قوله‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً‏}‏ ثم اعترض الله سبحانه عليهم، لما قالوا نؤمن بما أنزل علينا، بهذه الجملة المتشملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ، أي‏:‏ إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم، فكيف تقتلون الأنبياء، وقد نهيتم عن قتلهم، فيما أنزل عليكم‏؟‏ وهذا الخطاب، وإن كان مع الحاضرين من اليهود، فالمراد به أسلافهم، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ‏}‏ جواب لقسم مقدّر‏.‏ والبينات يجوز أن يراد بها التوراة، أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏ ويجوز أن يراد الجميع، ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم، عناداً بعد قيام الحجة عليكم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب مّنْ عِندِ الله مُصَدّقٌ لما معهم‏}‏ قال‏:‏ هو القرآن ‏{‏مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ من التوراة، والإنجيل‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري؛ قال‏:‏ حدّثني أشياخ منا قالوا‏:‏ لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا؛ لأن معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنا أصحاب وَثَن، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا‏:‏ إن نبياً ليبعث الآن قد أظلّ زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعناه، وكفروا به، ففينا والله، وفيهم أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ‏}‏ وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا‏:‏ كانت العرب تمرّ باليهود، فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمداً في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه نبياً، فيقاتلون معه العرب، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل‏.‏ وقد روى نحو هذا، عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة، ومعانيها متقاربة‏.‏ وروى عن غيره من السلف نحو ذلك‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم‏:‏ اليهود كفروا بما أنزل الله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغياً، وحسداً للعرب ‏{‏فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ‏}‏ قال‏:‏ غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل، وبعيسى، وبكفرهم بالقرآن، وبمحمد‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بَغْيًا أَن يُنَزّلَ الله‏}‏ أي‏:‏ أن الله جعله من غيرهم ‏{‏فَبَاءو بِغَضَبٍ‏}‏ بكفرهم بهذا النبي ‏{‏على غَضَبٍ‏}‏ كان عليهم بما صنعوه من التوراة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً عن مجاهد معناه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ‏}‏ قال‏:‏ بما بعده‏.‏ وأخرج ابن جرير عن السدي قال‏:‏ بما وراءه‏:‏ أي القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 96‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قد تقدّم تفسير أخذ الميثاق، ورفع الطور‏.‏ والأمر بالسماع معناه‏:‏ الطاعة والقبول، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع، ومنه قولهم‏:‏ «سمع الله لمن حمده» أي‏:‏ قبل وأجاب، ومنه قول الشاعر‏:‏

دعوت الله حتى خفت أن لا *** يكون الله يسمع ما أقول

أي يقبل، وقولهم في الجواب ‏{‏سَمِعْنَا‏}‏ هو‏:‏ على بابه، وفي معناه؛ أي‏:‏ سمعنا قولك بحاسة السمع، وعصيناك، أي‏:‏ لا نقبل ما تأمرنا به، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم‏:‏ «سمعنا» ما هو معهود من تلاعبهم، واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏*اسمعوا‏}‏ على معناه الحقيقي أي‏:‏ السماع بالحاسة، ثم أجابوا بقولهم‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا‏}‏ أي‏:‏ أدركنا ذلك بأسماعنا، عملاً بموجب ما تأمر به، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عزّ وجلّ، بل مراده بالأمر سماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا‏:‏ ‏{‏وَعَصَيْنَا‏}‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏واشربوا‏}‏ تشبيه بليغ، أي‏:‏ جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه، ومثله قول زهير‏:‏

فصحوتُ عنها بعد حُبٍّ داخل *** والحبُّ يشُرْبِهُ فؤادك داء

وإنما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاوزها، ولا يتغلغل فيها، والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِكُفْرِهِمْ‏}‏ سببية‏:‏ أي‏:‏ كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم، وخذلاناً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم‏}‏ أي‏:‏ إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بما وراءه، فإن هذا الصنع، وهو قولكم‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ في جواب ما أمرتم به في كتابكم، وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاق ما زعمتم، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل، ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم‏:‏ ‏{‏نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ لا صادقون، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة‏}‏ هو ردٌّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، و‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ منصوب على الحال، ويكون خبر كان هو عند الله، أو يكون خبر كان هو خالصة، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم، إذا كانت اللام في قوله‏:‏ ‏{‏مّن دُونِ الناس‏}‏ للجنس، أو لا يشاركهم فيها المسلمون، إن كانت اللام للعهد‏.‏

وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ وإنما أمرهم بتمني الموت؛ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا، ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا‏}‏،

و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ موصولة، والعائد محذوف، أي بما قدّمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب، بل غير طامع في دخول الجنة، فضلاً عن كونه قاطعاً بها، فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به، وقيل إن الله سبحانه صرفهم عن التمني؛ ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمراد بالتمني هنا هو اللفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب، وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة، ومواطن الخصومة، ومواقف التحدي‏.‏ وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف، والتجرؤ على الله، وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة، في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرّر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت، إما لأمر قد علموه، أو للصرفة من الله عز وجل‏.‏ وقد يقال‏:‏ ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت، فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهيّ عنه في شريعته‏؟‏ ويجاب بأن المراد هنا‏:‏ إلزامهم الحجة، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ تهديد لهم، وتسجيل عليهم بأنهم كذلك‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ‏}‏ جواب قسم محذوف، وتنكير حياة للتحقير، أي‏:‏ أنهم أحرص الناس على أحقر حياة، وأقلّ لبث في الدنيا، فكيف بحياة كثيرة، ولبث متطاول‏؟‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة، وهي‏:‏ الحياة المتطاولة، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ قيل‏:‏ هو‏:‏ كلام مستأنف، والتقدير‏:‏ ومن الذين أشركوا ناس ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ‏}‏ وقيل إنه معطوف على الناس أي‏:‏ أحرص الناس، وأحرص من الذين أشركوا، وعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ‏}‏ راجعاً إلى اليهود بياناً لزيادة حرصهم على الحياة، ووجه ذكر ‏{‏الذين أشركوا‏}‏ بعد ذكر ‏{‏الناس‏}‏ مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب، ومن شابههم من غيرهم‏.‏ فمن كان أحرص منهم، وهم‏:‏ اليهود كان بالغاً في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها‏.‏ وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحدّ الفاضل على حرص المشركين؛ لأنهم يعلمون بما يحلّ بهم من العذاب في الآخرة، بخلاف المشركين من العرب، ونحوهم، فإنهم لا يقرّون بذلك، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود‏.‏

والأول، وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح؛ لعدم استلزامه للتكليف، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود‏.‏ وقال الرازي‏:‏ إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم، وفي إظهار كذبهم في قولهم‏:‏ إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا‏.‏ انتهى‏.‏ ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحاً قد أفاده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على الحياة‏}‏ ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين، أن لا يكونوا من جملة الناس، وخص الألف بالذكر؛ لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة‏.‏ وأصل سنة‏:‏ سنهة، وقيل‏:‏ سنوة‏.‏

واختلف في الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ‏}‏ فقيل‏:‏ هو‏:‏ راجع إلى أحدهم، والتقدير‏:‏ وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏أَن يُعَمَّرَ‏}‏ فاعلاً لمزحزحه‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ لما دل عليه يعمر من مصدره، أي‏:‏ وما التعمير بمزحزحه، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏أن يعمر‏}‏ بدلاً منه‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ هو‏:‏ عماد‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ ضمير الشأن‏.‏ وقيل‏:‏ «ما» هي الحجازية، والضمير اسمها، وما بعده خبرها، والأوّل أرجح، وكذلك الثاني، والثالث ضعيف جداً؛ لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين، ولهذا يسمونه ضمير الفصل، والرابع فيه‏:‏ أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جرّ كما حكاه ابن عطية عن النحاة‏.‏ والزحزحة‏:‏ التنحية، يقال‏:‏ زحزحته، فتزحزح‏:‏ أي نحيته فتنحى، وتباعد، ومنه قول ذي الرمة‏:‏

يا قَابِضَ الرُّوح عَنْ جِسْم عصىَ زَمناً *** وغافر الذنب زَحْزِحْني عَن النَّارِ

والبصير‏:‏ العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم‏:‏ فلان بصير بكذا‏:‏ أي خبير به، ومنه قول الشاعر‏:‏

فإِنْ تَسألُوني بِالنِّساءِ فَإننِي *** بَصيرٌ بأدْواءِ النِّساءِ طِبيبُ

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل‏}‏ قال‏:‏ أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، أن اليهود لما قالوا‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏، نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، مثله عن قتادة‏.‏ وأخرج البيهقي، في الدلائل عن ابن عباس، أن قوله‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً مّن دُونِ الناس‏}‏ يعني المؤمنين‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ فقال لهم رسول الله‏:‏ ‏"‏ إن كنتم في مقالتكم صادقين، فقولوا‏:‏ ‏"‏ اللهم أمتنا ‏"‏، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غصّ بريقه، فمات مكانه ‏"‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ أي‏:‏ ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهوديّ إلا مات‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال‏:‏ «لو تمنى اليهود الموت لماتوا»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه نحوه‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره من حديثه مرفوعاً‏:‏ «لو أن اليهود تمنوا لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة‏}‏ قال اليهود‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ قال‏:‏ وذلك أن المشركين لا يرجون بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ماله من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ‏}‏ قال‏:‏ بمنحيه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم «ده هزار رسال» يعني عش ألف سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

هذه الآية قد أجمع المفسرون على أنها نزلت في اليهود‏.‏ قال ابن جرير الطبري‏:‏ وأجمع أهل التأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم، وأن ميكائيل وليّ لهم‏.‏ ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر نبوّته، ثم ذكر روايات في ذلك ستأتي آخر البحث إن شاء الله‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ يحتمل، وجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يكون لله، ويكون الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏نَزَّلَهُ‏}‏ لجبريل، أي‏:‏ فإن الله سبحانه نزل جبريل على قلبك، وفيه ضعف كما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏‏.‏ الثاني أنه لجبريل، والضمير في ‏{‏نزله‏}‏ للقرآن، أي‏:‏ فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وخص القلب بالذكر؛ لأنه موضع العقل، والعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ أي‏:‏ بعلمه، وإرادته، وتيسيره، وتسهيله، و‏{‏مَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ هو‏:‏ التوراة كما سلف، أو جميع الكتب المنزلة، وفي هذا الدليل على شرف جبريل، وارتفاع منزلته، وأنه لا وجه لمعاداة اليهود له، حيث كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك، أو من تنزيل الله له على قلبك، وهذا هو وجه الربط بين الشرط، والجواب، أي‏:‏ من كان معادياً لجبريل منهم، فلا وجه لمعاداته له، فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبة دون العداوة، أو من كان معادياً له، فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل، وليس ذلك بذنب له، وإن نزهوه، فإن هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم، وعدوان؛ لأن هذا الكتاب الذي نزل به هو مصدق لكتابهم، وهدى، وبشرى للمؤمنين‏.‏

ثم أتبع سبحانه هذا الكلام بجملة مشتملة على شرط، وجزاء يتضمن الذمّ لمن عادى جبريل بذلك السبب، والوعيد الشديد له فقال‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ عَدُوّاً لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين‏}‏ والعداوة من العبد هي‏:‏ صدور المعاصي منه لله، والبغض لأوليائه، والعداوة من الله للعبد هي‏:‏ تعذيبه بذنبه، وعدم التجاوز عنه، والمغفرة له، وإنما خص جبريل، وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة؛ لقصد التشريف لهما، والدلالة على فضلهما، وأنهما، وإن كانا من الملائكة، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة، تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما ذكره صاحب الكشاف، وقرره علماء البيان‏.‏ وفي جبريل عشر لغات ذكرها ابن جرير الطبري، وغيره، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك‏.‏ وفي ميكائيل ست لغات، وهما اسمان عجميان، والعرب إذا نطقت بالعجمي تساهلت فيه‏.‏

وحكى الزمخشري عن ابن جني أنه قال‏:‏ العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ من وضع الظاهر موضع المضمر، أي‏:‏ فإن الله عدوّ لهم، لقصد الدلالة على أن هذه العداوة موجبة لكفر من وقعت منه‏.‏ وقد أخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ «حضرت عصابة من اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهنّ إلا نبيّ، قال‏:‏ ‏"‏ سلوني عما شئتم ‏"‏ فسألوه، وأجابهم، ثم قالوا‏:‏ فحدثنا مَنْ وليك من الملائكة، فعندها نجامعك، أو نفارقك، فقال‏:‏ ‏"‏ وليي جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه ‏"‏ قالوا‏:‏ فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لاتبعناك، وصدقناك، قال‏:‏ ‏"‏ فما يمنعكم أن تصدقوه‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ هذا عدوّنا‏.‏ فعند ذلك أنزل الله الآية‏.‏ وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشعبي عن عمر بن الخطاب في قصة جرت له معهم، وإسنادها صحيح، ولكن الشعبي لم يدرك عمر وقد رواها عكرمة وقتادة، والسدّي، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عمر‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والنسائي، وغيرهم، عن أنس؛ قال‏:‏ «سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيّ‏؟‏ ما أوّل أشراط الساعة‏؟‏ وما أوّل طعام أهل الجنة‏؟‏ وما ينزع الولد إلى أبيه، أو إلى أمه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أخبرني بهنّ جبريل آنفاً ‏"‏ فقال جبريل‏؟‏ قال ‏"‏ نعم ‏"‏ قال‏:‏ ذاك عدوّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ أما أوّل أشراط الساعة، فنار تخرج من المشرق، فتحشر الناس إلى المغرب، وأما أوّل ما يأكل أهل الجنة، فزيادة كبد حوت، وأما ما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها ‏"‏ قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله‏}‏ يقول‏:‏ فإن جبريل نزل القرآن بأمر الله يشدد به فؤادك، ويربط به على قلبك‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ يقول‏:‏ لما قبله من الكتب التي أنزلها والآيات، والرسل الذين بعثهم الله‏.‏ وقد ذكر السيوطي في هذا الموضع من تفسيره‏:‏ «الدرّ المنثور» أحاديث كثيرة واردة في جبريل، وميكائيل، وليست مما يتعلق بالتفسير حتى نذكرها‏.‏